فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} عطف على جملة {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا} [الكهف: 45]. فلفظ {يومَ} منصوب بفعل مضمر، تقديره: اذكر، كما هو متعارف في أمثاله.
فبعد أن بين لهم تعرض ما هم فيه من نعيم إلى الزوال على وجه الموعظة، أعقبه بالتذكير بما بعد ذلك الزوال بتصوير حال البعث وما يترقبهم فيه من العقاب على كفرهم به، وذلك مقابلة لضده المذكور في قوله: {والباقيات الصالحات خير} [الكهف: 46].
ويجوز أن يكون الظرف متعلقًا بمحذوف غير فعل اذكر يدل عليه مقام الوعيد مثل: يَرون أمرًا مفظعًا أو عظيمًا أو نحو ذلك مما تذهب إلى تقديره نفس السامع.
ويقدر المحذوف متأخرًا عن الظرف وما اتصل به لقصد تهويل اليوم وما فيه.
ولا يجوز أن يكون الظرف متعلقًا بفعل القول المقدر عند قوله: {لقد جئتمونا} إذ لا يناسب موقعَ عطف هذه الجملة على التي قبلها، ولا وجه معه لتقديم الظرف على عامله.
وتسيير الجبال: نقلها من مواضعها بزلزال أرضي عظيم، وهو مثل قوله تعالى: {وإذا الجبال سيرت} [التكوير: 3] وقوله تعالى: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب} [النّمل: 88].
وقيل: أطلق التسيير على تناثر أجزائها.
فالمراد: ويوم نسير كل جبل من الجبال، فيكون كقوله: {وتكون الجبال كالعهن المنفوش} [القارعة: 5] وقوله: {وبست الجبال بسًا فكانت هباءً منبثًا} [الواقعة: 5 6] وقوله: {وسيرت الجبال فكانت سرابًا} [النبأ: 20].
والسبب واحد، والكيفيتان متلازمتان، وهو من أحوال انقراض نظام هذا العالم، وإقبال عالم الحياة الخالدة والبعث.
وقرأ الجمهور {نسير} بنون العظمة.
وقرأ ابن كثير وابن عامر، وأبو عمرو {ويوم تُسيّر الجبال} بمثناة فوقية ببناء الفعل إلى المجهول ورفع {الجبال}.
والخطاب في قوله: {وترى الأرض بارزة} لغير معين.
والمعنى: ويرى الرائي، كقول طرفة:
ترى جُثْوَتَيْن من تراب عليهما ** صفائحُ صمٌّ من صَفيح مُنَضد

وهو نظير قوله: {فترى المجرمين مشفقين مما فيه} [الكهف: 49].
والبارزة: الظاهرة، أي الظاهر سطحها، إذ ليس عليها شيء يستر وجهها من شجر ونبات أو حيوان، كقوله تعالى: {فإذا هم بالساهرة} [النازعات: 14].
وجملة {وحشرناهم} في موضع الحال من ضمير {تُسير} على قراءة من قرأ بنون العظمة، أو من الفاعل المنوي الذي يقتضيه بناء الفعل للنائب على قراءة من قرأ: {تُسير الجبالُ} بالبناء للنائب.
ويجوز أن نجعل جملة {وحشرناهم} معطوفة على جملة {نسير الجبال} على تأويله ب {نحشرهم} بأن أطلق الفعل الماضي على المستقبل تنبيهًا على تحقيق وقوعه.
والمغادرة: إبقاء شيء وتركه من تعلق فعل به، وضمائر الغيبة في {حشرناهم} و{منهم} {وعُرضوا} عائدة إلى ما عاد إليه ضمير الغيبة في قوله: {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا} [الكهف: 45].
وعَرض الشيء: إحضاره ليُرى حاله وما يحتاجه.
ومنه عرض الجيش على الأمير ليرى حالهم وعدتهم.
وفي الحديث: «عُرضت عليّ لأمم» وهو هنا مستعار لإحضارهم حيث يعلمون أنهم سيتلقون ما يأمر الله به في شأنهم.
والصف: جماعة يقفون واحدًا حذو واحد بحيث يبدو جميعهم لا يحجب أحد منهم أحدًا.
وأصله مصدر صفهم إذا أوقفهم، أطلق على المصفوف.
وانتصب {صفًا} على الحال من واو {عُرضوا}.
وتلك الحالة إيذان بأنهم أحضروا بحالة الجناة الذين لا يخفى منهم أحد إيقاعًا للرعب في قولبهم.
وجملة {وعرضوا على ربك} معطوفة على جملة {وحشرناهم}، فهي في موضع الحال من الضمير المنصوب في {حشرناهم}، أي حشرناهم وقد عرضوا تنبيهًا على سرعة عرضهم في حين حشرهم.
وعدل عن الإضمار إلى التعريف بالإضافة في قوله: {على ربك} دون أن يقال علينا لتضمن الإضافة تنويهًا بشأن المضاف إليه بأن في هذا العرض وما فيه من التهديد نصيبًا من الانتصار للمخاطب إذ كذبوه حين أخبرهم وأنذرهم بالبعث.
وجملة {لقد جئتمونا} مقولٌ لقول محذوف دل عليه أن الجملة خطاب للمعروضين فتعين تقدير القول، وهذه الجملة في محل الحال.
والتقدير: قائلين لهم لقد جئتمونا.
وذلك بإسماعهم هذا الكلام من جانب الله تعالى وهم يعلمون أنه من جانب الله تعالى.
والخطاب في قوله: {لقد جئتمونا} موجه إلى معاد ضمير {عُرضوا}.
والخبر في قوله: {لقد جئتمونا} مستعمل في التهديد والتغليظ والتنديم على إنكارهم البعث.
والمجيء: مجاز في الحضور، شبهوا حين موتهم بالغائبين وشبهت حياتهم بعد الموت بمجيء الغائب.
وقوله: {كما خلقناكم أول مرة} واقع موقع المفعول المطلق المفيد للمشابهة، أي جئتمونا مجيئًا كخلقكم أول مرة.
فالخلق الثاني أشبه الخلق الأول، أي فهذا خلق ثاننٍ.
و{ما} مصدرية، أي كخلقنا إياكم المرة الأولى، قال تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد} [ق: 15]. والمقصود التعريض بخطئهم في إنكارهم البعث. والإضراب في قوله: {بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدًا} انتقال من التهديد وما معه من التعريض بالتغليط إلى التصريح بالتغليط في قالب الإنكار؛ فالخبر مستعمل في التغليط مجازًا وليس مستعملًا في إفادة مدلوله الأصلي.
والزعم: الاعتقاد المخطىء، أو الخبر المعرَّض للكذب، والموعد أصله: وقت الوعد بشيء أو مكان الوعد، وهو هنا الزمن الموعود به الحياة بعد الموت، والمعنى: أنكم اعتقدتم باطلًا أن لا يكون لكم موعد للبعث بعدا لموت أبدًا.
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ}.
جملة {ووضع الكتاب} معطوفة على جملة {وعرضوا على ربك} [الكهف: 48]، فهي في موضع الحال، أي وقد وضع الكتاب.
والكتاب مراد به الجنس، أي وضعت كتب أعمال البشر، لأن لكل أحد كتابًا، كما دلت عليه آيات أخرى منها قوله تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا اقرأ كتابك} [الإسراء: 13-14] الآية.
وإفراد الضمير في قوله: {مما فيه} لمراعاة إفراد لفظ الكتاب.
وعن الغزالي: أنه قال: يكون كتاب جامع لجميع ما هو متفرق في الكتب الخاصة بكل أحد.
ولعله انتزعه من هذه الآية.
وتفرع على وضع الكتاب بيان حال المجرمين عند وضعه.
والخطاب بقوله: {فترى} لغير معين.
وليس للنبيء صلى الله عليه وسلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يومئذٍ في مقامات عالية عن ذلك الموضع.
والإشفاق: الخوف من أمر يحصل في المستقبل.
والتعبير بالمضارع في {يقولون} لاستحضار الحالة الفظيعة، أو لإفادة تكرر قولهم ذلك وإعادته شأن الفزعين الخائفين.
ونداء الويل: نُدبة للتوجع من الويل.
وأصله نداء استعمل مجازًا بتنزيل ما لا ينادى منزلة ما ينادى لقصد حضوره، كأنه يقول: هذا وقتك فاحضري، ثم شاع ذلك فصار لمجرد الغرض من النداء وهو التوجع ونحوه.
والويلة: تأنيث الويل للمبالغة، وهو سوء الحال والهلاكُ.
كما أُنثت الدارُ على دَارة، للدلالة على سعة المكان، وقد تقدم عند قوله تعالى: {قال يا وليتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب} في سورة العقود المائدة (31).
والاستفهام في قولهم: {مال هذا الكتاب} مستعمل في التعجب.
فما اسم استفهام، ومعناها: أي شيء، و{هذا الكتاب} صفة لـ: ما الاستفهامية لما فيها من التنكير، أي ما ثبت لهذا الكتاب.
واللام للاختصاص مثل قوله: {ما لك لا تأمنا على يوسف} [يوسف: 11].
وجملة {لا يغادر} في موضع الحال، هي مثار التعجب، وقد جرى الاستعمال بملازمة الحال لنحو {ما لك} فيقولون: ما لك لا تفعل وما لك فاعلًا.
والمغادرة: الترك، وتقدم آنفًا في قوله: {فلم نغادر منهم أحدًا} [الكهف: 47].
والصغيرة والكبيرة: وصفان لموصوف محذوف لدلالة المقام، أي فعلة أو هَنَة.
والمراد بالصِغر والكبر هنا الأفعال العظيمة والأفعال الحقيرة.
والعظم والحقارة يكونان بحسب الوضوح والخفاء ويكونان بحسب القوة والضعف.
وتقديم ذكر الصغيرة لأنها أهم من حيث يتعلق التعجب من إحصائها.
وعطفت عليها الكبيرة لإرادة التعميم في الإحصاء لأن التعميم أيضًا مما يثير التعجب، فقد عجبوا من إحاطة كاتب الكتاب بجميع الأعمال.
والاستثناء من عموم أحوال الصغيرة والكبيرة، أي لا يبقي صغيرة ولا كبيرة في جميع أحوالهما إلا في حال إحصائه إياها، أي لا يغادره غير محصي.
فالاستثناء هنا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لأنه إذا أحصاه فهو لم يغادره، فآل إلى معنى أنه لا يغادر شيئًا، وانتفت حقيقة الاستثناء.
فجملة {أحصاها} في موضع الحال.
والرابط بينها وبين ذي الحال حرف الاستثناء.
والإحصاء: العد، أي كانت أفعالهم معدودة مفصلة.
وجملة {ووجدوا ما عملوا حاضرًا} في موضع الحال من ضمير {يقولون}.
أي إنما قالوا ذلك حين عرضت عليهم أعمالهم كلها عند وضع ذلك الكتاب عرضًا سريعًا حصل به علم كلَ بما في كتابه على وجهٍ خارق للعادة.
وجملة {ولا يظلم ربك أحدًا} عطف على جملة {ووجدوا ما عملوا حاضرًا} لما أفهمته الصلة من أنهم لم يجدوا غير ما عملوا، أي لم يحمل عليهم شيء لم يعملوه، لأن الله لا يظلم أحدًا فيؤاخذه بما لم يقترفه، وقد حدد لهم من قبل ذلك ما ليس لهم أن يفعلوه وما أمروا بفعله، وتوعدهم ووعدهم، فلم يكن في مؤاخذتهم بما عملوه من المنهيات بعد ذلك ظلم لهم.
والمقصود: إفادة هذا الشأن من شؤون الله تعالى، فلذلك عطفت الجملة لتكون مقصودة أصالة.
وهي مع ذلك مفيدة معنى التذييل لما فيها من الاستدلال على مضمون الجملة قبلها، ومن العموم الشامل لمضمون الجملة قبلها وغيره، فكانت من هذا الوجه صالحة للفصل بدون عطف لتكون تذييلًا. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)}.
قوله: {ويوم} منصوب باذكر مقدرًا. أوبفعل المحذوف قبل قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى} [الأنعام: 94] أي قلنا لهم يوم نسير الجبال: لقد جئتمونا فرادى. وقول من زعم أن العامل فيه {خير} يعني والباقيات الصالحات خير يوم نسير الجبال- بعيد جدًا كما ترى.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: كم أن يوم القيامة يختل فيه نظام هذا العالم الدنيوي، فتسير جباله، وتبقى أرضه بارزة لا حجر فيها ولا شجر، ولا بناء ولا وادي ولا علم- ذكره في مواضع أخر كثيرة، فذكر أنه يوم القيامة يحمل الأرض والجبال من أماكنهما، ويدكهما دكة واحدة، وذلك في قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة} [الحاقة: 13-15] الآية.
وما ذكره من تسيير الجبال في هذه الآية الكريمة ذكره أيضًا في مواضع أخر، كقوله: {يَوْمَ تَمُورُ السماء مَوْرًا وَتَسِيرُ الجبال سَيْرًا} [الطور: 9-10]، وقوله: {وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ: 20]، وقوله: {وَإِذَا الجبال سُيِّرَتْ} [التكوير: 3]، وقوله: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} [النمل: 88] الآية.
ثم ذكر في مواضع أخر- أنه جل وعلا يفتتها حتى تذهب صلابتها الحجرية وتلين، فتكون في عدم صلابتها ولينها كالعهن المنفوش، وكالرمل المتهايل، كقوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السماء كالمهل وَتَكُونُ الجبال كالعهن} [المعارج: 8-9]، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} [القارعة: 4-5] والعهن: الصوف. وقوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال وَكَانَتِ الجبال كَثِيبًا مَّهِيلًا} [المزمل: 14]، وقوله تعالى: {وَبُسَّتِ الجبال بَسًّا} [الواقعة: 5] أي فتتت حتى صارت كالبسيية، وهي دقيق متلوت بسمن، على أشهر التفسيرات.
ثم ذكر جل وعلا أنه يجعلها هباء وسرابًا. قال: {وَبُسَّتِ الجبال بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا} [الواقعة: 5-6] وقال: {وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ: 20].
وبين في موضع آخر- أن السراب عبارة عن لا شيء. وهو قوله: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 39]- إلى قوله- {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39].